سورة النازعات - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النازعات)


        


أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم، كما ينزع النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدّ، وكذا المراد: بالناشطات، والسابحات، والسابقات، والمدبرات: يعني: الملائكة، والعطف مع اتحاد الكلّ؛ لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقال السديّ: {النازعات} هي النفوس حين تغرق في الصدور.
وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفس.
وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم: نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم: نزعت بالحبل أي: إنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر. وبه قال أبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان.
وقال عطاء، وعكرمة: النازعات القسي تنزع بالسهام، وإغراق النازع في القوس أن يمدّه غاية المدّ حتى ينتهي به إلى النصل.
وقال يحيى بن سلام: تنزع بين الكلأ وتنفر، وقيل: أراد بالنازعات الغزاة الرماة، وانتصاب {غَرْقاً} على أنه مصدر بحذف الزوائد أي: إغراقاً، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى أي: إغراقاً في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، أو على الحال أي: ذوات إغراق، يقال أغرق في الشيء يغرق فيه: إذا أوغل فيه وبلغ غايته ومعنى {الناشطات}: أنها تنشط النفوس أي: تخرجها من الأجساد، كما ينشط العقال من يد البعير، إذا حلّ عنه، ونشط الرجل الدلو من البئر: إذا أخرجها، والنشاط: الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها. قال أبو زيد: نشطت الحبل أنشطه نشطاً عقدته، وأنشطته، أي: حللته، وأنشطت الحبل، أي: مددته. قال الفراء: أنشط العقال أي: حلّ، ونشط أي: ربط الحبل في يديه. قال الأصمعي: بئر أنشاط أي: قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة، وبئر نشوط، وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيراً.
وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان.
وقال السديّ: هي النفوس حين تنشط من القدمين.
وقال عكرمة، وعطاء: هي الأوهاق التي تنشط السهام، وقال قتادة، والحسن، والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي: تذهب. قال في الصحاح: والناشطات نشطاً: يعني: النجوم من برج إلى برج كالثور الناشط من بلد إلى بلد، والهموم تنشط بصاحبها.
وقال أبو عبيدة، وقتادة: هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد. وقيل: الناشطات لأرواح المؤمنين، والنازعات لأرواح الكافرين؛ لأنها تجذب روح المؤمن برفق، وتجذب روح الكافر بعنف، وقوله: {نَشْطاً} مصدر، وكذا سبحاً وسبقاً {والسابحات} الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح كما يسبح الغوّاص في البحر لإخراج شيء منه، وقال مجاهد، وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله، كما يقال للفرس الجواد: سابح إذا أسرع في جريه.
وقال مجاهد أيضاً: السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل: هي الخيل السابحة في الغزو، ومنه قول عنترة:
والخيل تعلم حين تس *** بح في حياض الموت سبحا
وقال قتادة، والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، كما في قوله: {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [ياس: 40] وقال عطاء: هي السفن تسبح في الماء، وقيل: هي أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى الله {فالسابقات سَبْقاً} هم: الملائكة على قول الجمهور كما سلف. قال مسروق، ومجاهد: تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء.
وقال أبو روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير، والعمل الصالح، وروي نحوه عن مجاهد.
وقال مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.
وقال الربيع: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى الله.
وقال مجاهد أيضاً: هو الموت يسبق الإنسان.
وقال قتادة، والحسن، ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضاً.
وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار. قال الجرجاني: عطف السابقات بالفاء، لأنها مسببة من التي قبلها، أي: واللاتي يسبحن فيسبقن. تقول قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سبباً للذهاب، ولو قلت قام وذهب بالواو لم يكن القيام سبباً للذهاب. قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله: {فالمدبرات أَمْراً} لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبر. قال الرازي: ويمكن الجواب عما قاله الواحدي: بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض كقوله: قام زيد فذهب، ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم، ففوّض إليهم التدبير. ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سبباً للتدبير كسببية السبح للسبق، والقيام للذهاب، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية، والأولى أن يقال: العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء، ولا يحتاج إلى نكتة، كما احتاج إليها ما قبله؛ لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته.
{فالمدبرات أَمْراً} قال القشيري: أجمعوا على أن المراد هنا: الملائكة.
وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة وهو قول الجمهور. والثاني أنها الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل، وفي تدبيرها الأمر وجهان: أحدهما تدبر طلوعها، وأفولها. الثاني: تدبر ما قضاه الله فيها من الأحوال. ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام، وتفصيلهما، والفاعل للتدبير في الحقيقة، وإن كان هو الله عزّ وجلّ، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به. وقيل: إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها: مدبرات.
قال عبد الرحمن بن ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل، فأما جبريل، فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل، فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل، فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل، فهو ينزل بالأمر عليهم، وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف أي: والنازعات، وكذا، وكذا لتبعثنّ. قال الفرّاء: وحذف لمعرفة السامعين به، ويدل عليه قوله: {أإِذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً}. وقيل: إن جواب القسم قوله: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى} أي: إن في يوم القيامة، وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى. قال ابن الأنباري: وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما، وقيل: جواب القسم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} لأن المعنى: قد أتاك، وهذا ضعيف جداً، وقيل الجواب: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة.
وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ، لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام، والأوّل أولى.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدّر للقسم، أو بإضمار اذكر، والراجفة المضطربة، يقال رجف يرجف: إذا اضطرب، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردّد واضطراب كالرعد، وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، والرادفة: النفخة الثانية التي تكون عند البعث، وسميت رادفة؛ لأنها ردفت النفخة الأولى، كذا قال جمهور المفسرين.
وقال ابن زيد: الراجفة: الأرض، والرادفة: الساعة.
وقال مجاهد: الرادفة: الزلزلة {تتبعها الرادفة} الصيحة، وقيل: الراجفة اضطراب الأرض، والرادفة الزلزلة، وأصل الرجفة الحركة، وليس المراد: التحرك هنا فقط، بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً: إذا ظهر صوته، ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وظهور الأصوات فيها، ومنه قول الشاعر:
أبا لأراجيف يا ابن اللؤم توعدني *** وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا
ومحل {تَتْبَعُهَا الرادفة}: النصب على الحال من الراجفة، والمعنى: لتبعثنّ يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها. {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} قلوب مبتدأ، ويومئذ منصوب بواجفة، وواجفة صفة قلوب، وجملة {أبصارها خاشعة} خبر قلوب، والراجفة: المضطربة القلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة. قال جمهور المفسرين أي: خائفة وجلة.
وقال السديّ: زائلة عن أماكنها، نظيره: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} [غافر: 18] وقال المؤرج: قلقة مستوفزة.
وقال المبرد: مضطربة، يقال وجف القلب يجف وجيفاً: إذا خفق، كما يقال وجب يجب وجيباً، والإيجاف: السير السريع، فأصل الوجيف اضطراب القلب، ومنه قول قيس بن الخطيم:
إن بني جحجبي وقومهم *** أكبادنا من ورائهم تجف
{أبصارها خاشعة} أي: أبصار أصحابها، فحذف المضاف، والخاشعة: الذليلة، والمراد: أنها تظهر عليهم الذلة والخضوع عند معاينة أهوال يوم القيامة، كقوله: {خاشعين مِنَ الذل}
[الشورى: 45] قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإسلام، ويدلّ على هذا أن السياق في منكري البعث {يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة} هذا حكاية لما يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم إنكم تبعثون أي: أنردّ إلى أوّل حالنا، وابتداء أمرنا، فنصير أحياء بعد موتنا، يقال: رجع فلان في حافرته، أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عند العرب اسم لأوّل الشيء، وابتداء الأمر، ومنه قولهم رجع فلان على حافرته: أي على الطريق الذي جاء منه، ويقال اقتتل القوم عند الحافرة أي: عند أوّل ما التقوا، وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة، ومن هذا قول الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب *** معاذ الله من سفه وعار
أي أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل بعد الشيب والصلع؟! وقيل الحافرة: العاجلة، والمعنى: إنا لمردودون إلى الدنيا. وقيل: الحافرة: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، ومنه قول الشاعر:
آليت لا أنساكم فاعلموا *** حتى يردّ الناس في الحافرة
والمعنى: إنا لمردودون في قبورنا أحياء، كذا قال الخليل، والفراء، وبه قال مجاهد.
وقال ابن زيد: الحافرة: النار، واستدلّ بقوله: {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة}. قرأ الجمهور {في الحافرة} وقرأ أبو حيوة {في الحفرة}. {أإِذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً} أي: بالية متفتتة. يقال: نخر العظم بالكسر: إذا بلي وهذا تأكيد لإنكار البعث أي: كيف نردّ أحياء، ونبعث إذا كنا عظاماً نخرة؟ والعامل في إذا مضمر يدلّ عليه مردودون أي: أئذا كنا عظاماً بالية نردّ ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة. قرأ الجمهور: {نخرة} وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر {ناخرة}، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم، واختار القراءة الثانية الفراء، وابن جرير، وأبو معاذ النحوي. قال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد، أي: لم تبل ولا بدّ أن تنخر. وقيل: هما بمعنى، تقول العرب: نخر الشيء، فهو ناخر ونخر، وطمع، فهو طامع وطمع ونحو ذلك. قال الأخفش: هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن. قال الشاعر:
يظلّ بها الشيخ الذي كان بادنا *** يدبّ على عوج له نخرات
يعني: على قوائم عوج. وقيل: الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها، والنخرة التي فسدت كلها.
وقال مجاهد نخرة أي: مرفوتة، كما في قوله: {رفاتاً} [الإسراء: 49].
وقد قرئ: {إذا كنا} و{أئذا كنا} بالاستفهام، وبعدمه. ثم ذكر سبحانه عنهم قولاً آخر قالوه فقال: {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة} أي رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران، والمعنى: أنهم قالوا إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد. وقيل: معنى خاسرة كاذبة أي: ليست بكائنة، كذا قال الحسن وغيره.
وقال الربيع بن أنس: خاسرة على من كذب بها.
وقال قتادة، ومحمد بن كعب أي: لئن رجعنا بعد الموت لنخسرنّ بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار، والكرّة: الرجعة، والجمع كرّات. وقوله: {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة} تعليل لما يدل عليه ما تقدّم من استبعادهم لبعث العظام النخرة، وإحياء الأموات، والمعنى: لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة، وكان ذلك الإحياء، والبعث، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها. وقيل: إن الضمير في قوله: {إِنَّمَا هِىَ}. راجع إلى الرادفة المتقدّم ذكرها. {فَإِذَا هُم بالساهرة} أي: فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض، قال الواحدي: المراد بالساهرة وجه الأرض، وظاهرها في قول الجميع. قال الفرّاء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان، وسهرهم. وقيل: لأنه يسهر في فلاتها خوفاً منها، فسميت بذلك، ومنه قول أبي كثير الهذلي:
يردون ساهرة كأنّ حميمها *** وغميمها أسداف ليل مظلم
وقول أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر *** وما فاهوا به لهم مقيم
يريد لحم حيوان أرض ساهرة. قال في الصحاح: الساهرة وجه الأرض، ومنه قوله: {فَإِذَا هُم بالساهرة}. وقال: الساهرة أرض بيضاء، وقيل: أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها. وقيل: الساهرة الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق.
وقال سفيان الثوري: الساهرة أرض الشام.
وقال قتادة: هي جهنم، أي: فإذا هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم، وجملة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه، وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم، ومعنى {هل أتاك}: قد جاءك وبلغك، هذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما، وعلى تقدير أن هذا أوّل ما نزل عليه في شأنهما، فيكون المعنى على الاستفهام أي: هل أتاك حديثه أنا أخبرك به.
{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى} الظرف متعلق ب {حديث} لا ب {أتاك} لاختلاف وقتيهما، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية، وقد تقدّم الاختلاف بين القرّاء في {طوى} في سورة طه. والواد المقدّس: المبارك المطهر. قال الفراء: {طوى} واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول من طاو كما عدل عمر من عامر. قال: والصرف أحبّ إليّ إذ لم أجد في المعدول نظيراً له. وقيل: طوى معناه يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل يا رجل اذهب، وقيل المعنى: إن الوادي المقدّس بورك فيه مرتين، والأوّل أولى.
وقد مضى تحقيق القول فيه. {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} قيل: هو على تقدير القول، وقيل: هو تفسير للنداء أي: ناداه نداء هو قوله اذهب.
وقيل: هو على حذف أن المفسرة، ويؤيده قراءة ابن مسعود أن اذهب؛ لأن في النداء معنى القول، وجملة: {إِنَّهُ طغى} تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال أي: جاوز الحدّ في العصيان، والتكبر، والكفر بالله {فَقُلْ} له {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} أي: قوله بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي وهو التطهر من الشرك، وأصله تتزكى فحذفت إحدى التاءين. قرأ الجمهور: {تزكى} بالتخفيف. وقرأ نافع، وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي. قال أبو عمرو بن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكياً مؤمناً ومعنى قراءة التشديد الصدقة، وفي الكلام مبتدأ مقدّر يتعلق به إليه، والتقدير: هل لك رغبة، أو هل لك توجه، أو هل لك سبيل إلى التزكي، ومثل هذا قولهم هل لك في الخير؟ يريدون هل لك رغبة في الخير، ومن هذا قول الشاعر:
فهل لكم فيها إليّ فإنني *** بصير بما أعيا النطاسي جذيما
{وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى} أي: أرشدك إلى عبادته وتوحيده، فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية؛ لأن الخشية لا تكون إلاّ من مهتد راشد {فَأَرَاهُ الآية الكبرى} هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف، يعني: فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ} [الأعراف: 106] فعند ذلك أراه الآية الكبرى.
واختلف في الآية الكبرى ما هي؟ فقيل: العصا، وقيل: يده. وقيل: فلق البحر. وقيل: هي جميع ما جاء به من الآيات التسع {فَكَذَّبَ وعصى} أي: فلما أراه الآية الكبرى كذّب بموسى، وبما جاء به، وعصى الله عزّ وجلّ، فلم يطعه {ثُمَّ أَدْبَرَ} أي: تولى، وأعرض عن الإيمان {يسعى} أي: يعمل بالفساد في الأرض، ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى، وقيل: أدبر هارباً من الحية يسعى خوفاً منها.
وقال الرازي: معنى: {أَدْبَرَ يسعى} أقبل يسعى، كما يقال أقبل يفعل كذا أي: أنشأ يفعل كذا، فوضع أدبر موضع أقبل؛ لئلا يوصف بالإقبال. {فَحَشَرَ} أي: فجمع جنوده للقتال والمحاربة، أو جمع السحرة للمعارضة، أو جمع الناس للحضور؛ ليشاهدوا ما يقع، أو جمعهم ليمنعوه من الحية {فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} أي: قال لهم بصوت عال، أو أمر من ينادي بهذا القول. ومعنى: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} أنه لا ربّ فوقي. قال عطاء: كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا ربّ أصنامكم، وقيل: أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم. والأوّل أولى لقوله في آية أخرى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى}
[القصص: 38]. {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة والأولى} النكال نعت مصدر محذوف، أي: أخذه أخذ نكال، أو هو مصدر لفعل محذوف، أي: أخذه الله، فنكله نكال الآخرة، والأولى، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة، والمراد بنكال الآخرة عذاب النار، ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق.
وقال مجاهد: عذاب أوّل عمره وآخره.
وقال قتادة: الآخرة. قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} والأولى: تكذيبه لموسى. وقيل: الآخرة. قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} والأولى: قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} [القصص: 38] وكان بين الكلمتين أربعون سنة، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له أي: أخذه الله لأجل نكال، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض أي: بنكال.
ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد، قال: لأن معنى أخذه الله: نكل الله به، فأخرج من معناه لا من لفظه.
وقال الفرّاء أي: أخذه الله أخذاً نكالاً أي: للنكال، والنكال اسم لما جعل نكالاً للغير أي: عقوبة له، يقال: نكل فلان بفلان إذا عاقبه، وأصل الكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى} أي: فيما ذكر من قصة فرعون، وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه، ويخاف عقوبته، ويحاذر غضبه.
وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {والنازعات غَرْقاً} قال: هي الملائكة تنزع روح الكفار {والناشطات نَشْطاً} قال: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها {والسابحات سَبْحاً} هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض {فالسابقات سَبْقاً} هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله {فالمدبرات أَمْراً} هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {والنازعات غَرْقاً} قال: هي أنفس الكفار تنزع، ثم تنشط، ثم تغرق في النار.
وأخرج الحاكم وصححه عنه: {والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً} قال: الموت.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود: {والنازعات غَرْقاً} قال: الملائكة الذين يلون أنفس الكفار إلى قوله: {والسابحات سَبْحاً} قال: الملائكة.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمزّق الناس، فتمزقك كلاب النار، قال الله: {والناشطات نَشْطاً} أتدري ما هو؟» قلت: يا نبيّ الله ما هو؟ قال: «كلاب في النار تنشط اللحم والعظم».
وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب أن ابن الكوّاء سأله عن: {المدبرات أمْراً} قال: هي الملائكة يدبرون ذكر الرحمن وأمره.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت عن ابن عباس قال: {لَكَ أمْراً} ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم، فمنهم من يعرج بالروح، ومنهم من يؤمِّن على الدّعاء، ومنهم من يستغفر للميت حتى يُصلى عليه ويدلى في حفرته.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} قال: النفخة الأولى {تَتْبَعُهَا الرادفة} قال: النفخة الثانية {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} قال: خائفة {أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة} قال: الحياة.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبيّ بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: «أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه».
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترجف الأرض رجفاً وتزلزل بأهلها وهي: التي يقول الله {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة}» يقول: «مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائه».
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} قال: وجلة متحركة.
وأخرج عبد بن حميد عنه: {أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة} قال: خلقاً جديداً.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن الأنباري في الوقف والابتداء، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله: {فَإِذَا هُم بالساهرة} فقال: الساهرة وجه الأرض، وفي لفظ قال: الأرض كلها ساهرة، ألا ترى قول الشاعر:
صيد بحر وصيد ساهرة ***
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} قال: هل لك أن تقول: لا إله إلاّ الله؟ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة} قال: قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} {والأولى} قال: قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} [القصص: 38].
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: كان بين كلمتيه أربعون سنة.


قوله: {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها} أي أخلقكم بعد الموت، وبعثكم أشدّ عندكم، وفي تقديركم أم خلق السماء؟ والخطاب لكفار مكة، والمقصود به: التوبيخ لهم والتبكيت؛ لأن من قدر على خلق السماء؟ التي لها هذا الجرم العظيم وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أوّل مرّة؟ ومثل هذا قوله سبحانه: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] وقوله: {أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [ياس: 81] ثم بيّن سبحانه كيفية خلق السماء فقال: {بناها * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} أي: جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض، ورفع سمكها أي: أعلاه في الهواء، فقوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} بيان للبناء، يقال سمكت الشيء أي: رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكاً: ارتفع. قال الفرّاء كل شيء حمل شيئًا من البناء أو غيره فهو سمك، وبناء مسموك، وسنام سامك أي: عال، والسموكات: السموات: ومنه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
قال البغوي: رفع سمكها، أي: سقفها. قال الكسائي، والفراء، والزجاج: تمّ الكلام عند قوله: {أَمِ السماء بناها} لأنه من صلة السماء، والتقدير: أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز. ومعنى {فَسَوَّاهَا}: فجعلها مستوية الخلق معدّلة الشكل لا تفاوت فيها، ولا اعوجاج، ولا فطور، ولا شقوق. {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} الغطش: الظلمة أي: جعله مظلماً، يقال غطش الليل وأغطشه الله، كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله، ورجل أغطش، وامرأة غطشى لا يهتديان. قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه عمش، ومنه فلاة غطشى: لا يهتدى فيها، والتغاطش التعامي. قال الأعشى:
ودهماء بالليل غطشى الفلا *** ة يؤنسني صوت قيادها
وقوله:
وغامرهم مدلهم غطش ***
يعني: غمرهم سواد الليل، وأضاف الليل إلى السماء؛ لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضافة إلى السماء. {وَأَخْرَجَ ضحاها} أي: أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس، وعبر عن النهار بالضحى؛ لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء؛ لأنه يظهر بظهور الشمس، وهي: منسوبة إلى السماء. {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} أي: بعد خلق السماء، ومعنى {دحاها} بسطها، وهذا يدلّ على أن خلق الأرض بعد خلق السماء، ولا معارضة بين هذه الآية، وبين ما تقدّم في سورة فصلت من قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [فصلت: 11] بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أوّلاً غير مدحوّة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، وقد قدّمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك، وقدّمنا أيضاً بحثاً في هذا في أوّل سورة البقرة عند قوله: {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع، كما في قوله: {عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، وقيل: بعد بمعنى قبل، كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر} [الأنبياء: 105] أي: من قبل الذكر، والجمع الذي ذكرناه أولى، وهو قول ابن عباس وغير واحد، واختاره ابن جرير. يقال: دحوت الشيء أدحوه: إذا بسطته، ويقال: لعشّ النعامة أدحى؛ لأنه مبسوط على الأرض. وأنشد المبرد:
دحاها فلما رآها استوت *** على الماء أرسى عليها الجبالا
وقال أمية بن أبي الصلت:
وبثّ الخلق فيها إذا دحاها *** فهم قطانها حتى التنادي
وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الأرض تحمل صخراً ثقالاً
دحاها فلما استوت شدّها *** بأيد وأرسى عليها الجبالا
قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال. وقرأ الحسن، وعمرو بن ميمون، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، وأبو السماك، وعمرو بن عبيد، ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء. {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها} أي: فجر من الأرض الأنهار والبحار والعيون.
وأخرج منها مرعاها. أي: النبات الذي يرعى، ومرعاها مصدر ميميّ أي: رعيها، وهو في الأصل موضع الرعي، والجملة إما بيان وتفسير لدحاها؛ لأن السكنى لا تتأتى بمجرِّد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب. وإما في محل نصب على الحال.
{والجبال أرساها} أي: أثبتها في الأرض، وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقرّ، وأن لا تميد بأهلها. قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال. وقرأ الحسن، وعمرو بن ميمون، وأبو حيوة، وأبو السماك، وعمرو بن عبيد، ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء، قيل: ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء، والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب {متاعا لَّكُمْ ولأعامكم} أي منفعة لكم ولأنعامكم من البقر، والإبل، والغنم، وانتصاب متاعاً على المصدرية أي: متعكم بذلك متاعاً أو هو مصدر من غير لفظه؛ لأن قوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها} بمعنى متع بذلك، أو على أنه مفعول له أي: فعل ذلك لأجل التمتيع، وإنما قال: {لَّكُمْ ولانعامكم} لأن فائدة ما ذكر من الدحوّ، وإخراج الماء، والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم، والمرعى يعمّ ما يأكله الناس والدواب.
{فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى} أي: الداهية العظمى التي تطمّ على سائر الطامات. قال الحسن، وغيره: وهي النفخة الثانية.
وقال الضحاك، وغيره: هي القيامة سميت بذلك، لأنها تطمّ على كل شيء لعظم هولها. قال المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طمّ الفرس طميماً: إذا استفرغ جهده في الجري، وطمّ الماء: إذا ملأ النهر كله.
وقال غيره: هو من طمّ السيل الركية أي دفنها، والطمّ الدفن.
قال مجاهد، وغيره: الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها، وجواب إذا قيل: هو قوله: {فَأَمَّا مَن طغى}. وقيل: محذوف أي: فإن الأمر كذلك، أو عاينوا أو علموا، أو أدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة.
وقال أبو البقاء: العامل فيها جوابها وهو معنى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} [الفجر: 23] فإنه منصوب بفعل مضمر، أي: أعني يوم يتذكر، أو يوم يتذكر يكون كيت، وكيت. وقيل: إن الظرف بدل من إذا، وقيل: هو بدل من الطامة الكبرى؛ ومعنى تذكر الإنسان ما سعى: أنه يتذكر ما عمله من خيرّ، أو شرّ؛ لأنه يشاهده مدوّناً في صحائف عمله، و{ما} مصدرية، أو موصولة {وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} معطوف على جاءت، ومعنى برّزت: أظهرت إظهاراً لا يخفى على أحد. قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق، وقيل: {لِمَن يرى} من الكفار، لا من المؤمنين؛ والظاهر أن تبرز لكلّ راء، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غمه، وحسرة إلى حسرته. قرأ الجمهور {لمن يرى} بالتحتية. وقرأت عائشة، ومالك ابن دينار، وعكرمة، وزيد بن عليّ بالفوقية، أي: لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. وقرأ ابن مسعود: {لمن رأى} على صيغة الفعل الماضي.
{فَأَمَّا مَن طغى} أي: جاوز الحد في الكفر والمعاصي. {وَءاثَرَ الحياة الدنيا} أي: قدّمها عن الآخرة، ولم يستعدّ لها، ولا عمل عملها. {فَإِنَّ الجحيم هِىَ المأوى} أي: مأواه، والألف واللام عوض عن المضاف إليه، والمعنى: أنها منزله الذي ينزله، ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها. ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} أي: حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة. قال الربيع: مقامه يوم الحساب. قال قتادة: يقول إن لله عزّ وجلّ مقاماً قد خافه المؤمنون.
وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عزّ وجلّ عند مواقعة الذنب فيقلع عنه، نظيره قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] والأوّل أولى. {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} أي: زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها. قال مقاتل: هو الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها {فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى} أي: المنزل الذي ينزله، والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها.
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} أي: متى وقوعها وقيامها. قال الفراء: أي: منتهى قيامها كرسوّ السفينة. قال أبو عبيدة: ومرسى السفينة حين تنتهي، والمعنى: يسألونك عن الساعة متى يقيمها الله، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} أي: في أيّ شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها، والمعنى: لست في شيء من علمها، وذكراها إنما يعلمها الله سبحانه، وهو إنكار وردّ لسؤال المشركين عنها أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألونك عنه ولست تعلمه؟ {إلى رَبّكَ منتهاها} أي: منتهى علمها، فلا يوجد علمها عند غيره، وهذا كقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي} [الأعراف: 187]، وقوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] فكيف يسألونك عنها، ويطلبون منك بيان وقت قيامها؟ {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} أي: مخوّف لمن يخشى قيام الساعة، وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة، ونحوه مما استأثر الله بعلمه، وخصّ الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون بالإنذار، وإن كان منذراً لكلّ مكلف من مسلم وكافر. قرأ الجمهور بإضافة: {منذر} إلى ما بعده. وقرأ عمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر، وطلحة، وابن محيصن، وشيبة، والأعرج، وحميد بالتنوين، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. قال الفراء: والتنوين، وتركه في منذر صواب كقوله: {بالغ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] و{مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} [الأنفال: 18]. قال أبو عليّ الفارسي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} أي: إلاّ قدر آخر نهار أو أوّله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدّة الدنيا، كما قال: {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35]. وقيل: لم يلبثوا في قبورهم إلاّ عشية أو ضحاها. قال الفراء، والزجاج: المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أوّل النهار. ومنه قول الشاعر:
نحن صبحنا عامراً في دارها *** جرداً تعادى طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها ***
والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} قال: بناها {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} قال: أظلم ليلها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه. {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} قال: وأظلم ليلها {وَأَخْرَجَ ضحاها} قال: أخرج نهارها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} قال: مع ذلك.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً أن رجلاً قال له: آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى، فقال: إنما أتيت من قبل رأيك، قال: اقرأ: {قُلْ أَءنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ} حتى بلغ: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [فصلت: 9- 11] وقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} قال: خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم خلق السماء، ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله: {دحاها}: بسطها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: {دحاها} أن أخرج منها الماء والمرعى، وشقق فيها الأنهار، وجعل فيها الجبال، والرمال، والسبل، والآكام وما بينهما في يومين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الطامة من أسماء يوم القيامة.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فنزلت: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا}».
وأخرج البزار، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت: «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبّكَ منتهاها} فانتهى، فلم يسأل عنها».
وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبّكَ منتهاها} فكفّ عنها.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس. قال السيوطي بسند ضعيف: إن مشركي مكة سألوا النبيّ فقالوا: متى الساعة استهزاء منهم؟ فأنزل الله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} يعني: مجيئها {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} يعني: ما أنت من علمها يا محمد {إلى رَبّكَ منتهاها} يعني: منتهى علمها.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على النبيّ سألوه عن الساعة، فينظر إلى أحدث إنسان منهم، فيقول: «إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم».